النبي يدعو ربه بصدق النية والمـدد بالنصر والقوة !
دراسة جديدة تقوم علي استقراء السنة الصحيحة والسيرة النبوية المعتمدة لبيان أسئلة الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ التي سألها هو, حيث إن الشائع المعروف أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يسألون رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيجيبهم ويفتيهم بالوحي.
هل كان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يسأل؟
ولكن هل كان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يسأل؟ وما تلك الأسئلة التي سألها؟ وإلي من كان صلي الله عليه وسلم يتوجه بالسؤال؟ وهل كان يسأل ليعلم شيئا غاب عنه ـ صلي الله عليه وسلم ـ حتي يعلم جوابه ممن سألهم؟ إن الدراسة تقول: نعم ، فهل هذا يتعارض ومقام النبوة العالي؟ وهل سأل ـ الرسول صلي الله عليه وسلم ـ ليعلم أصحابه, وما ثمرة التعليم بالسؤال؟ وإذا كان صلي الله عليه وسلم ـ سأل رجالا كثيرين وقال: من أنت؟ فهل يكون ذلك دليلا كافيا للذين يزعمون أن من البشر من تدخل عليه فيعرف: من أنت دون أن يسألك؟
ألا يستحي هؤلاء من إفساد عقيدة الناس , والتخلف عن ركب الحضارة التي وضع الإسلام أسسها بتطبيق المعصوم ـ صلي الله عليه وسلم ـ وعمله وقوله الذي كان السؤال من مبادئها, حيث إنه مفتاح العلم يأمر الله- تعالي- رسوله- صلي الله عليه وسلم- أن يسأله صدق المدخل والمخرج, فقال عز وعلا- في سورة الإسراء: وقل رب أدخلني مدخل- صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.ا
روي الترمذي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم بمكة , ثم أمر بالهجرة , فنزلت عليه: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا قال العلماء: أي: قل يا محمد رب أدخلني , المدينة مدخل صدق , أي إدخالا مرضيا , وأخرجني من مكة مخرج صدق , لا ألتفت لها بقلبي , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا: قوة تنصرني بها , وما من شك في أن معني الآية يتسع لكل دخول وخروج , ولنا في ضوء هذه الآية وقفات , منها أن السؤال بدأ بـ رب التي أصلها ربي , بالياء , لكن كسرة الباء تغني عن الياء , فهي بعضها , والحركات أبعاض الحروف كما قال ابن جني , والمتأمل في سؤال الأنبياء والصالحين الوارد في القرآن الكريم كله يجد أنه يبدأ بـ يارب ألا تري إلي دعاء آدم عليه السلام وزوجه حواء , والذي دعوا الله به ليغفر لهما , تأمل قوله- عز وجل: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين , وبهذه الآية فسر العلماء الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه , والواردة في قول ربنا - تعالي -: فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه , إنه هو التواب الرحيم , وحين أغرق ولد نوح الذي آوي إلي جبل ظن أنه سيعصمه من الماء ونادي نوح ربه قال: ونادي نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين , فلما بين الحق تعالي - أنه ليس من أهله, وأنه عمل غير صالح , ونهاه أن يسأله ما ليس به علم , ماذا قال؟ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.ا
وحين حمل خليل الله إبراهيم زوجه وولده إلي واد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام , تأمل كلمة ربنا وربي في تلك الآيات الواردة في سورة إبراهيم, حيث يقول الله - تعالي- : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . ربي إنهن أضللن كثيرا من الناس, فمن تبعني فإنه مني , ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم , ربنا ليقيموا الصلاة , فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون , ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفي علي الله من شئ في الأرض ولا في السماء , الحمد لله الذي وهب لي علي الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء , رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.ا
واقرأ في سورة آل عمران بعد أربع عشرة آية من أولها قول الله - عز وعلا -: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج, مطهرة ورضوان من الله, والله بصير بالعباد. الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار, واقرأ في خواتيمها بعد الآية الثانية والتسعين بعد المائة دعاء أولي الألباب الذاكرين الله- تعالي- قياما وقعودا وعلي جنوبهم: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا , ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار, ربما وآتنا ما وعدتنا علي رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم .
وعن يقين تستطيع أن تقول
إن الدعاء والسؤال إذا بدأ بيارب فهو دعاء مبارك
فهيهات هيهات أن تستقرئ آيات القرآن الكريم هكذا , وتقف علي تلك الحقيقة ثم تقول: لاشئ هنا , وأضف إلي ذلك أنه - عز وعلا - حين أمر رسوله - صلي الله عليه وسلم - أن يسأله أن يدخله مدخل صدق وأن يخرجه مخرج صدق , قال له - عز من قائل -: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.ا
وكلمة الرب تعني القائم بأمر التربية , صاحب النعمة , ولذلك يقول الحق تعالي: يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم , الذي خلقك فسواك فعدلك , في أي صورة ما شاء ركبك , ويوجه القرآن الكريم قلوبنا وأفكارنا إلي قول إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه في سورة مريم: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله , وأدعوي ربي عسي ألا أكون بدعاء ربي شقيا ليبين لنا أن لإبراهيم ربا هو رب العالمين , وأن قول أبيه له: واهجرني مليا , ليس إبعادا له عن الخيرات , ودفء الحياة ورغد العيش , بحيث إذا هجره لن يجد له مأوي , ونستطيع الربط بين ذلك وبين قول الحق - عز وجل- لرسوله محمد- صلي الله عليه وسلم -: ماودعك ربك وما قلي فلمحمد - صلي الله عليه وسلم - رب آواه , وهداه , وأغناه , فما ضره إن فقد أباه , فإن يكن أبوه قد مات , فإن ربه الحي الذي لا يموت , وقد خاطبنا ربنا - تعالي - بقوله: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار, يطلبه حثيثا و الشمس و القمر والنجوم مسخرات بأمره , ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين , ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين , أي الذين يجهرون بالدعاء , كما نسمع في الشوارع والمنازل من ينطق بكلمة يارب , كما ينطلق الانفجار من فم القنبلة , وما هكذا يكون الأدب في الدعاء , الذي يكون بالنداء سرا ودون الجهر من القول , ويكون سبيلا بين الجهر والتخافت كما في أواخر سورة الإسراء: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها, وابتع بين ذلك سبيلا , ولا يكون الدعاء لحنا وسجعا , وذلك كسجع الكهان , ولا غناء , وكيف يكون وهو تضرع وتوسل ورجاء , ودعاء من يسمع السر وأخفي , ومما نلحظه من سؤال النبي - صلي الله عليه وسلم - طلب الصدق في دخول أي شئ من بلد , وحقل , ومصنع , ومدرسة ومعهد وجامعة ومتجر , ألا تري أن التاجر الصدوق مع النبيين يوم القيامة , وأن من طلب العلم للرياء والمفاخرة فقد سعي به إلي النار, ومن دخل لإصلاح بين متخاصمين شكلا وهو ينوي أن يشعل ما بينهما نارا , وأن يفسد ذات بينهما كان آثما منافقا , ومن رضي بحياة زوجية ليضر زوجته , فبدا شكله راضيا ومحبا , وهو ينوي الإضرار بها , حتي تقول: حقي برقبتي وتترك الجمل وما حمل , كان آثما مخالفا شرع الله , وصريح القرآن الكريم : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا, ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن , فالصدق المتعلق بالنية , وطلب الإخلاص لله في الحل والترحال , والشدة والرخاء , والسراء والضراء , والوحدة والاختلاط مبتغي المؤمن , يقول الله - تعالي ـ : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين, الذين قال الله فيهم: ليجزي الله الصادقين بصدقهم .ا
ومما هو مهم أن نقف عنده في سؤال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - صدق المدخل والمخرج , وأن يجعل الله له من لدنه سلطانا نصيرا: التعبير بـ لدن دون عند , فأنت حين تتأمل أساليب القرآن الكريم تجد التعبير بـ لدن , وتجد التعبير بـ عند , ولعل في هذا المتأمل المتدبر يسأل: ما الفرق بينهما؟
والجواب توضحه الأساليب القرآنية نفسها , وخلاصة هذا الجواب أن اللدنية تكون من عند الله دون واسطة الأسباب , والعندية تكون من عنده - تعالي- بواسطة الأسباب , فكلٌ من عند الله , والحق - تعالي- يقول: ومابكم من نعمة فمن الله , ولننظر لإيضاح ذلك في نور الآيات القرآنية , ننظر إلي أهل الكهف , هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدي , ماذا قالوا حين دعوا ربهم ؟ يقول الله - عز وعلا ـ : إذ أوي الفتية إلي الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة , وهيئ لنا من أمرنا رشدا , فقد طلب الفتية من ربهم رحمة من لدن الله , لأن الأسباب التي تؤدي إلي الرحمة بهم قد تقطعت , ألا تري إلي قولهم : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة , لولا يأتون عليهم بسلطان بين , فمن أظلم ممن افتري علي الله كذبا , وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلي الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ، أتظن أن اعتزال قومهم وما يعبدون إلا الله يؤدي بهم إلي أن ينسلخ أحد المعتزلين من قومهم إليهم بشئ من الرحمة . واقرأ في السورة نفسها عن الخضر ماذا قال الله فيه ؟ قال الله تعالي: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما , لتجد أن الرحمة هنا من عند لا من لدن , بينما تجد العلم من لدن الله , فما الفرق الذي تجد ؟
إن الخضر وجد من يقدم له رحمة من الله برا وعطفا وحنانا , ومودة , وهذا يجعلك تستريح إلي قول المفسرين الذين قالوا: إن أصحاب السفينة عرفوه , ورحبوا بأن يحملوه ونبي الله موسي بدون أجرة , فلما خرق سفينتهم كان العجب من موسي , فقال له : قوم حملونا بغير نول أجرة وتخرق سفينتهم , مثلما كان العجب في النقيض , حيث أبي أهل القرية استضافتهما , وأقام جدارا لهم بدون أجر, أما العلم الذي منحه الله - تعالي- الخضر , عليه السلام , فهو العلم اللدني , الذي أنعم الله به عليه بدون معلم سواه , وحين تقرأ في أول سورة مريم قول زكريا - عليه السلام – : قال رب إني وهن العظم مني , واشتعل الرأس شيبا , ولم أكن بدعائك رب شقيا , وإني خفت الموالي من ورائي , وكانت امرأتي عاقرا , فهب لي من لدنك وليا , فقد سأل زكريا - عليه السلام - ربه أن يهب له من لدنه , ولم يكن التعبير من عندك لأن الأسباب كما ذكرها القرآن الكريم قد ظهرت عاجزة , فالزوج قد بلغ من الكبر عتيا , والزوجة عاقر, فتوجه الدعاء إلي الله تعالي بلدن لا بعند ،
فإنما يكون الدعاء بقولنا :من عندك إذا توافرت الأسباب , أو طلبناها , ويكون الدعاء بلدن إذا رغبنا فيما عند الله مباشرة دون واسطة ولا سبب, أو ضمرت الأسباب , وبطل مفعولها , والله - العلي الكبير- قادرعلي إحيائها
فتسبق العرجاء - كما قالت العرب - وتنصلح المعطلة , وتتحرك المقعدة , وقد وجه الحق - تبارك و تعالي - نبينا محمدا , صلي الله عليه وآله وسلم , أن يسأله سلطانا نصيرا من لدنه , ولذلك حين تقرأ براءة : إلا تنصروه فقد نصره الله ، لأن له من لدنه السلطان النصير الذي هيأه له , وأمده به من سكينة أنزلها عليه , فامتلأ إحساسا بالأمن في الغار موطن الفزع , حيث وقف علي بابه الكافرون المطاردون لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآه , ورأي صاحبه , وأيده بجنود لم يرها أحد , وأنزل الملائكة تقاتل معه , ونصره بالرعب , ولنا أن نسأل الله - عز وعلا - بما سأله عبده ورسوله - صلي الله عليه وسلم - محمد , فنقول :
ربنا أدخلنا مُدخَلَ صدق ٍ وأخرجنا مُخرَجَ صدق ٍ, واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا
د. مبروك عطية
أستاذ ورئيس قسم اللغويات
كلية الدراسات الإسلامية ـ جامعة الأزهر