زمرد خاتون .. صاحبة أول مستشفى عسكري

khaton

ربما تكون هذه أول مرَّة تسمعون فيها باسم هذه المرأة ، فحتى اسمها ( زمرد خاتون) غريب وغير شائع ، ولكنّك بالتأكيد تعرف أخاها، فهو أشهر من نار على علم ، زمرد خاتون  الملقبة بست الشام هي الشقيقة الصُّغرى للبطل صلاح الدين الأيوبي ، الذي حرَّر القدس من الإفرنج ، في معركة حطين الشهيرة سنة 1182م.

الأميرة زمرد خاتون هي بنت الملك نجم الدين ايوب، ألقابها عديدة هي:

السيدة الأميرة ، وأم الفقراء ، وراعية العلم.

وهي: ابنة ملك ، وزوجة ملك ، وأم ملك ، وأخت الملوك وعماتهم،
لها من الأقارب المحارم 35 ملكا.

– هذه المكانة الرفيعة ،،
لم تحرك فيها الغرور ،،
> بل سخرت مكانتها وثراءها
> للعلم الشرعي ، وخدمة الفقراء.

– هي الأخت الصغرى للملك: (صلاح الدين الأيوبي)
منه ومعه ، تعلمت الأخلاق النبيلة ، وعلم الفقه والحديث ،
> حتى غدت عالمة من علماء الشافعية ، مما أهلها لتدريس بنات جيلها وعصرها.

ولنتوقف قليلاً مع اسمها فمعنى زمرد خاتون ، الزّمرد من الأحجار الكريمة ولونه أخضر شفاف ، وخاتون لقب للمرأة المحترمة ، وإستخدامه شائع بين العائلات العربية والكردية في العراق وسوريا.

يقول الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء:

«خاتون أخت السلاطين .. لها برّ وصدقات وأموال وخدم» أخت الملوك وعمّة أولادهم، وكان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكاً .. ومنهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فاتح القدس، ومؤسس الدولة الأيوبية في بلاد الشام ومصر واليمن.

ولدت بدمشق ، ونشأت في كنف والدها نجم الدين أيوب بن شاذي ، وكان من كبار رجالات السلطان نور الدين محمود بن زنكي ، وكان عمها أسد الدين شِيركوه من كبار قواده.

تزوَّجت في بداية حياتها من محمد بن عمرو بن لاجين ، وهو رجل لم يذكر لنا التاريخ شيئاً من أخباره ، وأنجبت منه وحيدها حسام الدين بن لاجين ، ثمَّ تزوّجت من ابن عمها ، ناصر الدين محمد بن شيركوه ، وكان صلاح الدين قد ولاه حمص منذ سنة 570هـ/1175م ، وبقيت عنده إلى حين وفاته فجأة في 9 ذي الحجة سنة 581 هـ/1186 م ، وورثت منه ثروة عظيمة.

صَرفت جُلَّ همّها لتعليم ابنها حسام الدين ، فكان لها ما أرادت ، امتاز ابنها بالشجاعة والكرم بين أقرانه ، فقرّبه إليه خاله صلاح الدين ، وعقب رجوعه من الحج مع والدته ست الشام سنة 582 هـ/ 1187 م حضر معركة حطين سنة 583 هـ /1187 م ، فكان لصلاح الدين من أعظم الأعوان ، فأرسله عقب المعركة مع فرقة من العسكر إلى نابلس ففتحها بالأمان ، فولاّه عليها حتى وفاته بدمشق في رمضان سنة 587 هـ/1191 م ، وفُجع صلاح الدين بوفاته ، وفُجعت ست الشام بوحيدها ، ودفنته في التربة التي كانت بنَتْها لزوجها ناصر الدين في مقبرة العوينة ، فأصبحت تعرف بالتربة الحسامية نسبة إليه.
وعلى الرغم من أن زمرد خاتون  غير مشهورة مثل أخيها ، فإنها قامت بدور ملهم في التطوع والعطاء ، يجعلها في وسط أي مشهد يصور حركة المرأة في المجتمع ، بل يستحيل من دونها أن تستوعب تماما مشاهد بطولات صلاح الدين نفسه ، فلنبدأ بإعادة تصوير هذه المرحلة ، وزمرد في  وسط المشهد.

استطاعت زمرد أن تحول بيتها إلى امتداد للفضاء العام ، بحيث أصبح بيتها جزءاً من المجتمع نفسه ، فسخرت منزلها ملاذا للخائفين من النساء والأطفال والجرحى من المقاتيلن في أثناء  حروب شقيقها على الجبهة ضد الفرنج ، ففي الوقت الذي كان صلاح الدين يقاتل ويحرّر المدن ، كانت زمرد خاتون في الداخل تسعف الجرحى وتؤوي المتضرّرين نفسياً وجسدياً من الحرب ، كان منزلها ملجأ للمدنيين من لهيب المعركة وشراسة العدو ، وبالأصل أنَّ هذا دور الدولة عادة ، ولكن أن تسخر امرأة منزلها الشخصي كملجأ وبمبادرة ذاتية لم يفرضها عليها أحد ، وبإقامة وخدمة مجانية فهذا الملفت والمتميز.

ولم تشتهر زمرد على نفس مستوى شهرة من شاركوا في حطين ، لأنَّ النَّاس في معادلة النصر والهزيمة ، تركز على ما يحدث في جبهة القتال ، ولكن زمرد قامت بدور لا يقل أهمية عن دور المقاتلين ، فلم تكتف بتحويل بيتها إلى ملجأ وملاذ للمدنين ، وإنما إلى مستشفى عسكري يقدم الرعاية الطبية للمصابين.

وأعتقد أن توفير الرِّعاية الطبية في وقت الحرب من أهم المراحل في معادلة النصر والهزيمة ، وإن لم يدرك مغزاها الناس ، فبقدر جودة الرعاية الطبية التي يحظى بها من أصيب إصابات طفيفة بقدر ما يستطيع الإنضمام إلى صفوف الجند ، ويساهم في تقوية الجيش ، فما تقوم به زمرد ليس مجرد التطبيب ، وإن كان ذلك في قمة الإنسانية والرحمة ، وإنما بمقاييس الناس المؤرخين ومتابعي ما يدور على جبهة الحرب ، مساهمة في حسم النتيجة النهائية لصالح المسلمين.

وكانت زمرد تستقطب أفضل الأطباء وأفضل الممرضين ، وتدفع لهم أجوراً محترمة ، وكانت تجلب أفضل الأدوية جاهزة من بلدان مختلفة وتخزنها في بيتها لتوزيعها على من يحتاجها من المرضى الفقراء ، فكان بيتها صيدلية مناوبة طوال السنة ، لتوزيع الأدوية مجاناً ، وتوفر للأطباء ما يحتاجونه من مال ومواد طبية ومختبرات لتصنعها في منزلها ، ولم تكن أدوار زمرد في التطوع والإغاثة موسمية أو مرتبطة  بظروف الحرب ، وإنما كانت ممتدة طوال السنة ، في الحرب والسلم ودون دوافع مصلحية أو مادية ، كانت تشتري الأدوية وتوزعها مجانا على الفقراء ، ومن هنا يمكن إعتبار أن زمرد أسست دار الحكمة في منزلها بجلبها الأدوية من فارس والهند والصين وتصنيع العقاقير وتوزيعها.
أبرز ما قامت به إنشاء مدرستين عظيمتين ، هما:

1- المدرسة الشامية البرانية:

أنشأتها سنة 582 هـ ، وتعرف بالمدرسة الحُسامية نسبة إلى ابنها الأمير حسام الدين ، وقد عيّنت فيها خيرة علماء عصرها ، واشترطت عليهم ألا يدرسوا بمدارس أخرى لضمان تفرغهم وتلبية حاجة الطلبة من الاهتمام الكافي.

وكان أول من درَس بها من العلماء الإمام الكردي الشهرزوري ، والقاضي شرف الدين بن زين القضاة ، وغيرهما من العلماء. وقد أوقفت الست زمردة خاتون على المدرسة أوقافاً ضخمة من أموالها.

2- المدرسة الشامية الجوانية:

يذكر المؤرخ شهاب الدين النويري أنّ الخاتون ست الشام عندما لحق بها المرض «جعلت دارها مدرسة ووقفت عليها وقوفاً» حتى أصبحت من أكبر المدارس وأعظمها ، وأكثرها فقهاء ، وأكبرها أوقافاً ، وكانت بمحلة العقيبة بدمشق ، وقد درّس بهذه المدرسة العديد من العلماء والفقهاء ،

أمثال: شيخ الشافعية ابن قاضي شُهبة  – قاضي القضاة تقي الدين ابن عجلون – الشيخ تقي الدين السبكي – الشيح تاج الدين السبكي.

وفي يوم الجمعة الموافق للسَّادس عشر من ذي القعدة سنة 616 هجرية توفيت  بدمشق ، ومشى في جنازتها الآلاف ، لدرجة أن مؤرخا كتب عن الجنازة يقول بأنها كانت من أعجب وأغرب الجنازات التي حصلت في دمشق من ضخامتها، وكتب عنها حفيد عالم مشهور اسمه ابن الجوزي:

( كانت سيدة الخواتين، عاقلة كثيرة البرّ والإحسان والصدقات ، وكان يُعملُ في دارها من الأشربة والمعاجين والعقاقير في كلِّ سنة بألوف الدنانير).

ولك أن تتخيّل من مشى في جنازتها التي كانوا ممَّن مشت في حاجتهم :

النساء والرِّجال والأطفال، مسلمون وغير المسلمين ممَّن آوتهم وقت الحروب ، الطلبة الذين درسوا في مدارسها ، جرحى المعارك ممَّن تلقوا العلاج في بيتها ، كلّ من استفاد من دار الحكمة من المرضى المحتاجين، العلماء والخطباء ومن صلوا في مسجدها ، عاشت زمرد خاتون حياة طويلة بمجموع آجال من عاشت لهم.

هناك واحدة تأتي إلى العالم ، وترحل منه دون أن يشعر بها أحد، وهناك أخرى تأتي إلى العالم وترحل منه، وقد تركته بأعمالها أفضل ممَّا وجدته عليه ، فلتكن  لك بصمة في حياة الناس، وإن لم تذكرك الأجيال بالإسم ، وليست العظمة في أن تشتهري بين الناس ، وإنما في أن تخلد أعمالك   في حس المجتمع ، وإن لم ينسبها الناس إلى شخصك ، وتذكري (أقرب الناس إلى الله  أنفعهم للناس)

فسخري مواردك في خدمة المجتمع، وفي أنشطة ينتفع منها الناس جيلاً بعد جيل، أو علّمي من حولك علماً لا يندثر برحيلك، أو قومي بتربية جيل صالح يدعو لك.

المصدر: https://www.basaer-online.com/

المراجع:
كوني مختلفة – هشام العوضي
كتاب دروس من الحياة للمرأة – ستيفاني مارستون
كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفي – بهاء الدين ابن شداد